1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

الشارع العربي اليوم ودوره المحدود

١٥ يناير ٢٠٠٩

د. شاكر النابلسي

https://p.dw.com/p/GZA1

-1-

الشارع العربي، هو الصوت الوحيد المسموع في هذه الأيام، بمناسبة محرقة غزة.

فهل يمكن لهذا الشارع، أن يؤثر في مجريات الأمور السياسية في العالم العربي. وهل يمكن أن يأتي بنتائج ايجابية، لم يستطع السلاح أو السياسة أن تأتي بها؟

فمن الملاحظ، أن الشارع في العالم، لم يعد كما كان في السابق، عبارة عن ممر للمشاة والراكبين، كما لم يعد في العالم العربي مجرد مكان للتسكع، وانتشار المقاهي على جانبيه، لعلك الكلام، وهشّ الذباب، وبثِّ الهيام. كما لم يعد مكاناً لرمي الزبالة، والتبوّل.

لقد أصبح الشارع في العالم المتحضر والديمقراطي والواعي، برلمان الأمة الحقيقي، بعيداً عن أصحاب الياقات المُنشّاة، وبعيداً عن خطب السياسيين المحترفين. أصبح الشارع فضاء الرأي الفطري، رغم هيمنة الأحزاب السياسية، والمنظمات الاجتماعية، على جانب منه.

أما الشارع العربي، فقد ظلَّ فضاءً غير مؤطر، وغير منظَّم للحرية، حيث لا فضاء غيره في دنيا العرب الحالية. ففيه يمكنك أن تقول ما لا يُقال، وتعبّر عمّا لا يُعبّر عنه في أي مجال، أو وسيلة أخرى. وخروج المواطن إلى الشارع، لا يكون إلا لرمي آخر سهم في جعبته، وإطلاق الرصاصة الأخيرة والصرخة الأخيرة، وهو أضعف الإيمان. فالشارع هو آخر المطاف للمقهورين، وهو حبل النجاة للمعارضة المقموعة. وفي الشارع - كما تقول نازك الأعرج - "تتعلم الجموع ألف باء وعي الذات الجمعية، ويدركوا روح التضامن، ويتوصلوا إلى الانتماء الكلي الإنساني. ويعتبر الشارع، في بعض الأوقات، وفي بعض البلدان العربية التي فيها وعي سياسي كبير ونسبة أمية قليلة، برلمان العرب الحقيقي، بعيداً عن الزيف، والكذب، والخداع، والمراوغة.

-2-

كلما كان الشارع واعياً ومثقفاً ثقافة سياسية عميقة، وثقافة عامة راقية، أصبح مؤثراً وفعالاً. وبدون ذلك، لا يُتوقع للشارع العربي أن تزداد فعاليته، وأن يؤثر على السياسات الخارجية والداخلية في العالم العربي، في ظل ضعف الأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً. وأن قول البعض من أن الشارع العربي الآن كسلاح، يوازي أهمية البترول، قول مجاني لا يرقى إلى الحقائق الموضوعية بصلة، فيما لو علمنا أثر الأمراض المتفشية الكثيرة في المجتمع العربي، والتي تنعكس على الحالة الصحية والمدنية للرأي العام العربي (وهو الشارع) المُعتل.

فكيف يمكن للمريض المُعتل أن يكون سلاحاً حاداً؟

-3-

لقد أصبح الشارع العربي الآن – ممثلاً بالطلبة والعاطلين على العمل والفقراء – بمثابة الرأي العام العربي، الذي نادراً ما يضع النقاط على الحروف، ويقول كلمته فيما يجري، في ظل غياب الحرية والديمقراطية في العالم العربي، وفي ظل اضطهاد الرأي الآخر، وفي ظل عدم إمكانية إجراء استطلاعات للرأي العام، دالة وصحيحة، يمكن بناء القرارات على أساسها، نتيجة للخوف من السلطة في قول الحقيقة، ونتيجة لعدم وجود الثقافة الكافية للمستطلَعين المستهدفين، ومعرفتهم الموضوعية، لما يدور حولهم من مشاكل وقضايا.

-4-

ليس هناك شارع عربي واحد موحد، وإنما هناك عدة شوارع عربية إقليمية، تجتمع على العموميات، وتختلف على الجزئيات والتفاصيل، وهذا هو المهم، فالشيطان يقبع دائماً في التفاصيل كما يقولون. وهذه الشوارع مثلاً، ومن أرض الواقع الآن، تتفق على تحرير فلسطين، ولكنها تختلف على كيفية تحرير فلسطين بالسلم أم بالحرب. بسلم منظمة "فتح" والسلطة الفلسطينية، أم بحرب "حماس" وبصواريخ القسّام. وتجتمع على ضرورة الحفاظ على الهوية العربية، ولكنها تختلف على أية هوية يجب أن نحافظ: الهوية القومية، أم الهوية الدينية. ولقد بدا الاختلاف واضحاً في الشوارع العربية في أكثر من مناسبة، أبرزها غزو صدام حسين الأثيم للكويت، وموقف الشوارع العربية من هذه الجناية، بين مؤيد، ومعارض، ومحايد.

وكان موقف الشوارع العربية المختلفة من عملية السلام بين بعض العرب وإسرائيل، مختلفاً، ومتبايناً. ويعتقد بعض الباحثين المتفائلين، أن هذا الانقسام في الشارع العربي، علامة صحة، ودليل وعي سياسي. ويقول الباحث الفلسطيني/ الكويتي شفيق الغبرا، "من الضروري الاعتراف بهذا الخلاف، لكي يكون الحوار بين العرب على أسس أكثر نضجاً، وأكثر تقبلاً، لهذا التعدد" ("الرأي العام بين الإجماع والانقسام"، جريدة "البيان"، دبي، 28/9/1999).

-5-

ونتيجة لغياب الديمقراطية، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية، وحظر التعبير عن الرأي والرأي الآخر، بالقول، أو بالفعل عن شؤون الحياة وشجونها، كان الشارع العربي لا يتحرك إلا بالمناسبات القومية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية كما هو الحال الآن. وحيث تكون المظاهرات في الشوارع ليست ضد الحكم المحلي، وتطبيقاته، وقراراته، وتعسفه، ولكن ضد دولة أجنبية غالباً ما تكون إسرائيل أو أمريكا، أو الغرب عموماً. ورغم ذلك تظل القيود والحدود مفروضة على التعبير في هذه المظاهرات، حرصاً على "الأمن"، و "الوحدة القومية"، و "المكاسب الوطنية"، ومنعاً لاستغلال مثل هذه المناسبات من قبل "أعداء الأمة"، و "المندسين"، و "المتربصين بالوطن".. إلى آخر هذه القائمة من الأعذار والحجج التي تُطلقها وزارات الداخلية العربية، من حين لآخر.

-6-

إن الشارع العربي الحقيقي غير موجود بالفعل. ذلك أن الشارع العربي، لا يتحرك إلا نادراً للتعبير عن قضايا سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية محلية. وهو لا يتحرك – كما هو الحال اليوم – بشكل كبير ومؤثر إلا تجاه قضيتين فقط: فلسطين (حائط مبكى العرب)، وما يمسّ الإسلام. وما عدا ذلك، فلم نشهد أن الشارع العربي قد تظاهر مثلاً ضد تعيين رئيس وزراء فاسد، أو تظاهر بسبب أموال مسروقة من خزينة الدولة، أو احتجَّ بسبب قرار الحاكم، بأن يتولى السلطة للمرة الخامسة، أو السادسة، أو مدى الحياة.. الخ.

ولم نشهد أن الشارع العربي، تظاهر لأسباب اقتصادية، وهي أمور مهمة وحيوية. فلم نشهد تظاهرات ضد الجوع إلا في عام 1976 في تونس، وفي عام 1977 في مصر، وفي عام 1989 في الأردن، في حين أن الجوع مستمر كل يوم، وبازدياد كبير في معظم العالم العربي.

ولم نشهد أن الشارع العربي، قد تظاهر ضد غياب الديمقراطية – ما عدا ما جرى في مصر من بعض الأحزاب المعارضة الصغيرة – فالشارع العربي غير مُعنى بالديمقراطية، بقدر ما هو مُعنى بتوفير لقمة الخبز، رغم تأكيد بعض الباحثين كالباحث السوري/الفرنسي برهان غليون، من أن الديمقراطية تكتسب بين حين وآخر، مواقع جديدة متقدمة في العالم العربي. ورغم هذا، فإن كان للشعب العربي أن يأسف على شيء في حياته السياسية المعاصرة، فيجب عليه أن يأسف على غياب الإيمان بالمباديء الديمقراطية، وخاصة في الأحزاب الدينية الإسلامية.