1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

المعذبون في الأرض من د. شاكر النابلسي

١١ سبتمبر ٢٠٠٨

المعذبون في الأرض

https://p.dw.com/p/FGG8

المعذبون في الأرض

د. شاكر النابلسي

-1-

حسن المالكي، باحث تنويري سعودي ومؤرخ جديد، لا يعرفه إلا القليلون في العالم العربي. والمعروفون جيداً في السعودية هم المشايخ من أصحاب الأشرطة والأربطة، وهم مجموعة من المتشددين والمتطرفين، يحسب الغشيم أنهم هم وحدهم السعودية، وهم فكرها وثقافتها، ولا أحد غيرهم، ويبنون أحكامهم المتعجلة بناءً على ذلك. فكما أن السعودية فيها من المتشددين والمتطرفين عدداً معلوماً، ففيها أيضاً من التنويريين العصريين أعداداً معلومة، وذلك كأي مجتمع آخر، بتكويناته المختلفة.

وحسن المالكي، لمن لا يعرفه، من مواليد جيزان 1970. وكان في صغره شغوفاً بالتعرف على الفكر السلفي والدعوة له. وكانت من أمانيه أن يذهب إلى أفغانستان في الثمانينات ليحارب الروس. وفي عام 1987 التحق بقسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود وتخرج منها عام 1993. وكان لدراسته في هذه الجامعة الأثر الكبير على تكوينه الثقافي المعاكس فيما بعد، فخرج منها لينفتح فكرياً على التراث الإنساني كله، وليُقبل على دراسة التاريخ الإنساني، والتأمل في أحداثه ومجرياته.

عمل حسن المالكي، في وزارة التربية والتعليم كمشرف على النشر. وهي وظيفة يبدو أنها مهمة. فالعمل في وزارة التربية والتعليم لطلاب التنوير والمبشرين به ولأضدادهم، مهم جداً.

-2-

ونشر المالكي كتباً مختلفة، ظهرت بعد 11 سبتمبر 2001 وكانت مليئة بالرأي الآخر، والاختلاف، والمغايرة، وفيها أفكار ومقولات جلبت على صاحبها الكثير من المتاعب. إلا أن من حظ المالكي، أن هذه الكتب قد ظهرت في هذا الزمن. فلم يُعانِ المالكي ما عانته رموز التنوير في أوروبا من قتل المفكرين والباحثين، أو حرقهم، أو تعذيبهم من قبل محاكم التفتيش والمتعصبين المتشددين من رجال الكنيسة. وكلنا يذكر ما حلَّ بالفيلسوف الايطالي برونو في عام 1600 عندما تمَّ إحراقه على سيخ الشواء (السفود) كأي خاروف آخر، من قبل رجال الكنيسة، عقاباً له على رأيه المختلف. كما أننا قرأنا ما حلِّ بالعالم الفلكي الايطالي جاليلو، حين طلبت منه الكنيسة التخلّي عن أفكاره، ولكنه رفض، فسجنته، وعذبته، إلى أن أُصيب بالعمى. كما علمنا ما فعله الملك هنري الثامن بالمفكر الانجليزي توماس مور (1478-1535) صاحب الكتاب المشهور "المدينة الفاضلة"، عندما سجنه الملك في قلعة موحشة، ثم أعدمه، وعلّق رأسه فوق جسر لندن، لرفضه التخلّي عن أفكاره. ولعلنا لا ننسى قط، كيف تمَّ قتل الفيلسوف الفرنسي بيير راموس (1515-1572) بالرصاص، ثم أُلقيت جثته من نافذة مكتبه في الدور الخامس في باريس، حيث تمَّ جرّه وإلقاؤه في نهر السين، ثم أخرجوه، وقطّعوه إرباً. ونذكر كيف أن محاكم التفتيش في أوروبا، أعدمت المئات من المثقفين حرقاً، ومنهم 13 رجلاً وامرأة في مدينة مودينا الايطالية، كما يخبرنا ول ديورانت، في "قصة الحضارة" (ج27، ص 187). والقائمة تطول وتطول كثيراً، لشواهد على الجرائم التي ارتكبها المتشددون في أوروبا ضد المفكرين والمثقفين، فكانت دماؤهم الزيت الذي أُضيء به فانوس التنوير الأوروبي.

-3-

كان حسن بن فرحان المالكي، مجتهداً سعودياً من مجتهدي التاريخ العربي – الإسلامي. والمجتهدون في التاريخ، يطلعون علينا أحياناً بتفسيرات مفيدة للأحداث التاريخية، منها ما يزحزح الكثير من الأفكار حول الأحداث التاريخية. والمجتهد في التاريخ العربي – الإسلامي، ملوم ومذموم دائماً، رغم أنه مأكول؛ أي مقروء. فهو كطعام البخيل مأكول مذموم، وهذا مخالف لتعاليم الدين التي تقول، أن لكل مجتهد نصيباً.

والمجتهد في التاريخ، في أوروبا المعاصرة، يجب أن يكون ملماً بعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس، وعلم المعرفة، وعلوم أخرى تقتضيها إعادة دراسته للتاريخ، كعلوم اللغة والأديان المقارنة والحفريات.. الخ. ومن هنا يتبين لنا، أن أي تفسير جديد ومختلف، لأصغر حادثة تاريخية، تقتضي من المجتهد أن يستعمل كل هذه الأدوات، لكي يأتي لنا بتفسير جديد للحادثة التاريخية.

-4-

والمجتهد في التاريخ إنسان ملعون ومنبوذ في معظم الأحيان، لأنه يأتي لنا بتفسير لحادثة تاريخية، ليغير من قناعاتنا الراسخة منذ مئات السنين، التي ورثناها أباً عن جد، وعن مؤرخ تلو مؤرخ، كان بالنسبة لنا هو الصادق لما يروي، وهو الأمين على ما يُروى. ومن هنا، كان المعذبون في الثقافات الإنسانية هم المؤرخون الذين لا يرضون بقناعات سابقة، وبمسلمات قائمة، ولكنهم يعملون بمشرحهم الجديد، في الأحداث التي يتصدون لها. وهذا حقٌ مشروعٌ في رأينا. فكلما تقدمت العلوم المذكورة آنفاً والمستعملة كأدوات مختبرية في دراسة ورصد التاريخ ووقائعه، وجدنا أن هناك تحليلات جديدة، وتفسيرات جديدة لتلك الوقائع. فليس هناك حقيقية نهائية قاطعة، لأي حدث تاريخي مهما كبُر، أو صغُر. وفتح التاريخ العربي- الإسلامي للدارسين والمجتهدين من الشرق والغرب وبحرية تامة، شرط استعمال أدوات معرفية خالصة لوجه المعرفة والحقيقة، يجعل من التاريخ العربي – الإسلامي خاصة، تراثاً إنسانياً لكل البشرية، وليس لأمة واحدة بعينها. فبقدر ما يشترك أكبر عدد من الدارسين من الشرق والغرب للتاريخ العربي- الإسلامي، بقدر ما يصبح الدين الإسلامي الذي هو لُبُّ التاريخ العربي – الإسلامي، ديناً عالمياً إنسانياً مفتوحاً لكل البشر، كما جاء في الأصل.

-5-

لقد أثَّرت أحداث كارثة الحادي من سبتمبر 2001، تأثيراً قوياً على تفكير حسن المالكي. ومن هذه الزاوية نستطيع اعتبار المالكي، بأنه "نتاج إعادة التربية". وقد قرأنا في تاريخ أوروبا الحديثة نماذج من هذا القبيل. وكان أقربها نموذج الفيلسوف السياسي الألماني الحي يورغن هابرماس. فقد أثرت هزيمة الرايخ الثالث، وما تبعها من كشف عن الوجه البشع للحقبة النازية، تأثيراً كبيراً على تنشئة هابرماس الاجتماعية، وهو ما دفعه إلى وصف نفسه، بأنه "نتاج إعادة التربية" التي شهدها المجتمع الألماني خلال التطبيق المنهجي لسياسة "اجتثاث النازية"، التي طبقتها سلطات الاحتلال بعد استسلام ألمانيا النازية. وهو ما فعلته وطبقته أمريكا في العراق حرفياً، دون أن تدرك أمريكا وصُنَّاع القرار فيها، الفروق الكبيرة بين النازية وحزب البعث، وبين الشعب الألماني والشعب العراقي.

-6-

للمجتهد حسن المالكي آراء في التاريخ، قريبة مما طرحناه من أفكار حول التاريخ ودراسته. فقد سمعته ذات مرة يقول في لقاء تلفزيوني، لو أن التاريخ العربي – الإسلامي نُقل بدون تعصب، وبدون دوافع سياسية معينة، في العصرين الأموي والعباسي، لما كان هناك خلافاً حاداً بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، كما هو عليه الحال الآن.

وقال المالكي – وهو في ظني حقيقة – إن الشعوب نتيجة تاريخية. بمعنى أن الفُرقة أو الوحدة، والاقتتال أو السلام، والصعود أو السقوط، والتقدم أو التخلف، هي نتائج تاريخية تراكمية. فنحن نتيجة لما رواه الطبري، وابن كثير، وابن سعد وغيرهم من المؤرخين القدامى. وهؤلاء شكلوا وعينا بالتاريخ العربي – الإسلامي.

-7-

دعونا نرى كيف يريد المالكي من خلال مؤلفاته المختلفة، أن يقرأ التاريخ:

1- في البدء، يضعنا المالكي من خلال كتابه "نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي" في صعوبة المهمة التي يقوم بها من ناحية إعادة قراءة التاريخ العربي- الإسلامي. فهو يرى أن التاريخ الإسلامي مُبتلى بعدة مصائب.

أولها، أعداؤه الذين يعممون الخاص ويخصصون السائد، وينشرون المثالب الظالمة، في ثياب عدل وتحقيق.

وثانيها، أن هذا التاريخ مُبتلى بكثير من الصالحين الذين يجمعون بين العاطفة الصادقة والجهل المركب. فانطلت على هؤلاء الصالحين أكاذيب الكذابين، وأخطاء الجاهلين، وأوهام النَقَلَة، منخدعين بشيوعها وانتشارها.

وثالثها، أن هذا التاريخ مُبتلى بالذين يجازفون بإصدار الأحكام المستعجلة، حول الأحداث والمواقف والشخصيات والنتائج، متناسين الطريق الصحيحة في البحث العلمي عن الحقيقة، واحترام العقل.

ورابعها، استحسان استخدام العلم (وهنا المقصود استخدام كافة العلوم التي ذكرناها آنفاً، للحفر والتفكيك والزحزحة) في البحث عن الحقيقة التاريخية، حتى وإن كانت هذه الحقيقة ضد تيار فكري معين أو أيديولوجيا معينة، أو مُسلَّمة من المُسلَّمات الكثيرة في تاريخنا، التي تراكم عليها كلس الأقوال والتفاسير المختلفة والمتضاربة، إلى درجة أن الحقيقة اختفت تحت هذا الركام الكلسي الهائل من الأقوال والتفاسير.

2- يرى القاريء المتبصر لبعض كُتب حسن المالكي- التي قال فيها جانباً من أفكاره وليست كلها، ففكر الرجل يتجدد عاماً بعد عام - أن المالكي يقرأ التاريخ ليس لاجتراره، وإعادة تلاوته كالببغاوات بكل شوائبه، ورموزه، وتخيلاته، وتراكماته، وتفاسيره، ولكن من أجل توليد الجديد العقلاني. وهو بذلك يُعتبر من عناصر مدرسة "الدفاع العقلاني" عن قيم وإنجازات التاريخ العربي ـ الإسلامي، والسعي إلى تحرير العقل العربي من العصبية، والتطرف، والتشدد، والتعصب.

3- يدرك المالكي خطورة ومخاطر مهمته، وأنه يحارب على جبهات كثيرة. ولكنه في الوقت نفسه، يؤمن بأن التاريخ الإسلامي، بحاجة إلى شجاعة غيورة، لا تخشى المحاذير. وهو يقول في مقدمة كتابه "نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي"، أن هذا التاريخ لا يريد منا خلاف ما تريده الحقيقة في شمولها وقوتها، في سموها وجوهرها. كما أن هذا التاريخ لا يريد منا أن نتشبث بأخطاء الدارسين، ولا برواسب التعصبات. وعلينا أن نجرد هذا التاريخ من ملونات الأزمنة والأمكنة، التي لا تتفق مع الحقائق. ويشير المالكي هنا من طرف خفي، بأن لا حقيقة مطلقة للتاريخ. وأن التاريخ كسطح البحر، كل يوم هو في شأن، ما دامت العلوم المختلفة المتعلقة بالحفر والتفكيك والزحزحة تتغير وتتطور وتكتشف في كل يوم جديداً.

-8-

ومن هنا نرى، أن حسن المالكي، يقيم جسراً موصولاً وطويلاً بينه وبين المؤرخ التونسي هشام جعيط، وبين المؤرخ الجزائري محمد أركون، وبين المؤرخ السوري نقولا زيادة، وبين المؤرخ المصري خالد محمد خالد، وبين المؤرخ العراقي مجيد خدوري، وغيرهم. وهؤلاء جميعاً يشكلون الطريق الجديدة لإعادة كتابة التاريخ العربي - الإسلامي الجديد، العابرة للعالم العربي وللعالم أجمع.