1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

الموصل لغماً

عبد المنعم الأعسم١٥ مارس ٢٠١٣

لا يصح النظر إلى ما يحدث في الموصل كما يقول عبد المنعم الاعسم باعتباره إفراز لصراعات جانبية تخوضها أطراف سياسية تتخذ من الطائفية ملاذا وشعارا وهوية لها.

https://p.dw.com/p/17yl7
صورة من: Reuters

هذا الوضع هو جزء من المشكلة التي تثيرها المواجهات في هذه المدينة، أما المكونات الأخرى من المشكلة فإنها تتوزع على مساحة واسعة من التاريخ والخصوصيات القومية والثقافية والاجتماعية فضلا عن التركيبة القبلية الحساسة للمدينة.

فهي المدينة الوحيدة من بين مدن العراق كانت، في خلال قيام الدولة العراقية المعاصرة في أواخر العقد الأول من القرن الماضي، موضع جدل في حقيقة انتمائها الجغرافي الى النسيج الوطني العراقي، ومنذ ذلك الوقت شقت المدينة سبيلا مميزا في بناء حاضرها الثقافي والعمراني، يستمد قسماته من تجليات التنوع، حيث كانت مهداً للأشوريين ومحجا للبابليين ومركزا للآراميين سكنها الجرامقة القدماء واقترن اسم نينوى بإمبراطورية الآشوريين في حين سقطت عام 612 قبل الميلاد على أيدي الكلدانيين والميديين فاتجهت الهجرات صوب تل قليعات بالموصل على الطرف الايمن من دجلة، ثم سيطر الفرس الأخمينيون على المنطقة بعد القضاء على الإمبراطورية الكلدانية عام ( 537 قبل الميلاد) وشجع كورش العرب والفرس علي السكني في هذه المنطقة لما تمثله من أهمية إستراتيجية أمام الإغريق وصارت الموصل المعاصرة مدينة ذات شأن بسبب التنوع القومي والديني لسكانها، من عرب وكرد وتركمان وسريان وكلدان وآثوريين وأرمن ، سنة وشيعة وايزيدية وشبك ويهود، ويشهد علي هذا الأمر وجود المئات من المآذن الإسلامية وعشرات من الأديرة والكنائس والمزارات لأتباع الديانات والأقليات.

ان محاولات تكييف أحوال المدينة لتكون حاضرة مسجلة في مشروع سياسي لفريق من الفرقاء المتصارعين اصطدمت دائما بجدار من الاستحالة، وانتهت تلك المحاولات، في الغالب، الى حروب محلية كارثية، لكن سرعان ما يعود ميزان القوى الى حالته الأولى، والى حقيقته الصلدة: لا يمكن للمدينة ان تدار إلا من خلال تعايش جميع المكونات ووسطية الحكم، وشاءت هذه الحقيقة ان تعيد نفسها هذه الأيام وسط محاولات لتحريك معادلات التوازن عن وسطيتها وأخذها رهينة في مشروع واحدي إلى حافة حرب أهلية جديدة كارثية بكل المعاني. والدرس نفسه يبقى ماثلا: الموصل لن تبقى موصلا من دون هذا التنوع.

من أين انطلقت شرارة الأزمة؟

على ان السؤال الذي تطرحه أحداث الموصل الأخيرة هو: من أين انطلقت شرارة الأزمة؟

الجواب بسيط جدا: من محاولات فرض نمط معين من الإدارة عليها، والإمعان في إيذاء مشاعر ومصالح المكونات، وغياب حكمة التوافق على الحد الأدنى من المشتركات السياسية بين تلك صناع السياسة، وعدم مراعاة خصوصيات المدينة وحساسية أوضاعها من قبل بغداد والأغلبية الحاكمة.

لكن، وعلى الرغم من أن هذا الجواب عمومي، وقد يتجه بالاتهام إلى أكثر من جهة، علينا ان نتتبع محركات الأحداث في هذه المدينة من مرحلة ما قبل سقوط الدكتاتورية، حيث أخضعت الموصل الى مشيئة الحزب الحاكم وصارت إحدى أهم مصادر شبكاته الضاربة، وأنتج ذلك كتلة من المدنيين والعسكريين، من الأغلبية العربية، وبعض المتحدرين من مكونات أخرى، اندمجت بمصائر النظام ودافعت عنه بشراسة متناهية، والنتيجة أن تعرضت المدينة إلى نوع من العقاب والتهميش، كرد فعل، أدى بالمقابل الى رد فعل محلي، انكفائي، وفي خلال سلسلة من الأفعال وردود الأفعال، انحشرت الموصل في برميل آيل للانفجار في أية لحظة فيما أذكت الجماعات المسلحة، من عصابات القاعدة وفلول النظام السابق، شرارة الكراهيات بالحرب التي أعلنتها ضد الكرد والمسيحيين والشيعة والايزيديين والحياة المدنية عموما، ونظمت مذابح واجلاءات ضد هذه المكونات، وخلقت معادلات أمنية وسايكولوجية واجتماعية خطيرة.

لقد تأخرت اعتصام الموصل عنها في مناطق غرب العراق، ولم تندلع إلا حين برز دور التيار المتطرف في اعتصام الفلوجة وصلاح الدين وبعض فعاليات الانبار، وقد لاقت شعارات التجييش و"إسقاط الدستور والنظام" صدى واسعا في الموصل الأمر الذي تلقفته الجماعات "الجهادية المسلحة" ونزلت بها الى الشوارع، لا لعرض مطالب السكان المشروعة في الخدمات وتأمين فرص العمل للعاطلين وإنهاء التمييز والإجراءات الأمنية التنكيلية، بل اتجهت إلى دعوات الانتقام وطبول الحرب وشعارات النظام الصدامي، قابلتها القوات الحكومية بإجراءات تتسم بالتخبط وانعدام التحسب لاستخدام القوة المفرطة، فضلا عن العمليات العسكرية الحدودية الانفعالية التي سجلت نفسها لصالح فريق الحكم في الحرب الأهلية السورية، حيث ألقى هذا الموقف بظلاله القاتمة على الوضع في الموصل.

كثير من المؤشرات تكشف أن الموصل سقطت في اسر التحالف المتطرف "اللاسلمي" الذي يتكون من القاعدة وبعثيي صدام حسين، وهي تخوض معركة معقدة للخروج من هذا الاسر، فلا بغداد تساعدها في احتواء مخاطر اللغم، ولا الحكومة المحلية تنهض بواجب ضبط المعادلة السياسية - الأمنية بما يمنع انفجار اللغم.. تلك هي المشكلة.

" إياك وكثرة الاعتذار، فإن الكذب كثيراً ما يُخالط المعاذير".

لقمان الحكيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر المقال في جريدة(الاتحاد) ببغداد ويعاد نشره على موقعنا بالاتفاق مع الكاتب