1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تلك الحدود

٥ نوفمبر ٢٠٠٩

نزار حيدر

https://p.dw.com/p/KOtF

القانون، هو مقياس كل شئ، وهي في اصلها كلمة فارسية معربة، وجمعها قوانين، وهي تعني الاصول، وعلى هذا الاساس فان الدول تنقسم الى قسمين، الاول هو الذي يعتمد الاصول، في تنظيم العلاقات بين الافراد، حاكمين ومحكومين، والثاني، هو الذي لا يعتمد على الاصول، وان الدول التي تعتمد الاصول (القوانين) تعتبر دولا ذا انظمة ديمقراطية، ليس للفوضى فيها مكان، اما الدول التي لا تعتمد الاصول (القوانين) فهي الدول ذات الانظمة الشمولية الاستبدادية، التي يحكمها (قانون) الغاب، الغلبة فيه لمن يمتلك الدبابة ليسرق السلطة من سلفه او يعتلى العرش وراثة من ابيه الذي لا يترك السلطة عادة لابنائه الا بالموت او القتل والاغتيال والتآمر وما اشبه.

ولقد عاش العراقيون عقودا طويلة من الزمن كان الحاكم الاوحد فيها هو القرارات التي يصدرها الحاكم (الضرورة) فلقد ظل العراق، منذ تاسيسه مطلع القرن الماضي على الاقل، من دون قانون، واذا كان يتمتع بقانون ما في بعض الفترات الزمنية، فهو قانون قرقوش الذي يتدخل فيه الحاكم متى شاء، ولمصلحة من يشاء، ولذلك ظلت الحياة العامة في بلاد الرافدين طيلة تلك الفترة قلقة ومترددة وغير مستقرة، حتى اذا سقط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003، تنفس العراقيون الصعداء، متطلعين الى بناء دولة القانون بكل معنى الكلمة، والتي كانت اولى لبناتها انهم صوتوا، ولاول مرة، على دستور دائم للبلاد، تشكلت على اساسه اول حكومة دستورية وطنية تتمتع بشرعية كبيرة.

ان تحول العراق من بلد لا يحكمه القانون، تتسلط عليه حفنة من قطاع الطرق وابناء الشوارع ومن العصابات الحزبية، الى بلد يحكمه القانون الذي يجب ان يكون فوق الجميع، بحاجة الى وقت طويل، من اجل ان يتعلم العراقيون، الحاكم والمحكوم، نسق الحياة الدستورية، فيألفون الالتزام بالقانون، ويتطبعون على التعايش مع القانون في كل مجالات الحياة.

وان تحول البلد من حالة اللاقانون الى حالة القانون، تتطلب ثلاثة عوامل يجب ان تتكامل لنشهد حياة دستورية حقيقية:

العامل الاول: هو الثقافة القانونية، اذ يجب ان يتعلم الناس على احترام القانون والالتزام به، وانه وضع لصالحهم وليس لتقييدهم او لمصادرة حرياتهم، واذا حدث وصادر قانون ما حرية من حريات الناس، فانما للصالح العام، كما لو ان قانونا منع التدخين في الدوائر الرسمية وفي المستشفيات وفي وسائط النقل العامة، كالطائرات والباصات والقطارات، فان مثل هذا القانون الذي سيحد من حرية المواطن في التصرف بصحته وماله، فانه في نفس الوقت، شرع للصالح العام، لتحقيق اعلى درجة من الاجواء الصحية للمواطنين، وهكذا لو حدد القانون معدل سرعة المركبات في الشوارع، فانه اذ يصادر حرية المواطن في سياقة مركبته في الشارع العام بالسرعة التي يحبها، الا انه يحقق درجة عالية من الامان للصالح العام، وهكذا.

اذن، يجب ان يتعلم الناس ثقافة القانون، ويعوا ضرورته ووجوبه واهميته في المجتمع، من اجل ان يبادروا الى طاعته والالتزام به من دون ان تضطر السلطات المعنية لفرض الغرامات مثلا او العقوبات للالتزام به.

اننا بحاجة الى ان نشيع ثقافة القانون في المجتمع وعلى مختلف الاصعدة، من خلال:

اولا: اهتمام الوالدين بتعليم الابناء وجوب احترام القانون، ليس فقط القانون المكتوب، وانما كل ما ينظم العلاقات العامة سواء بين الناس او بين الانسان والطبيعة او بين الانسان والاشياء التي من حوله، ليشب اولادنا وهم يحترمون القانون العام، وهذا ما يحتاج من الابوين الى ان يكونا دقيقين في طريقة التعامل مع القانون، لان الابناء عادة ما يتعلمان احترام او انتهاك القانون ممن هو اكبر منهم، فاذا راى الابن ان اباه، مثلا، لا يحترم اشارة المرور، فان الاب في هذه الحالة لا يمكنه ان يقنع ابنه بضرورة احترام اشارات المرور، لانه سيفكر بطريقة عفوية تهديه الى عدم الاكتراث بمثل هذا الامر، فيقول متسائلا مع نفسه، لو كان صحيحا ما يقوله ابي من وجوب احترام الاشارات الضوئية عند سياقة السيارة، وان ذلك لمصلحته قبل ان تكون لمصلة الاخرين، فلماذا لم يلتزم هو بمثل هذه (النصيحة)؟ الامر اذن لا يتعدى كونه مزحة من قبل ابي، وهكذا.

ثانيا: اضافة دروس في القانون الى كل المراحل الدراسية، ليشب الاطفال وهم يحترمون القانون.

حتى الاطفال في الروضة يجب ان نعلمهم على احترام القانون، من خلال القصة والرسم والطرفة وكل وسائل التربية والتعليم الحديثة.

ثالثا: اقامة الدورات وورش العمل التي تهتم بتدريس وتعليم القانون واهميته في بناء المجتمع السليم.

في هذا المجال، يشخص دور منظمات المجتمع المدني التي يجب ان تنشط في هذا المجال، من اجل اشاعة ثقافة القانون في المجتمع، ما يقلل من الكاهل والعبء على الدولة العراقية التي قد لا تستطيع ان تقنع الناس بمثل ذلك، لان العراقيين تعودوا على ان يرفضوا تعلم او تصديق كل ما تقوله وتسعى اليه الحكومة، اما منظمات المجتمع المدني، فان لها حظوظا كبيرة في انجاز مثل هذه المهمة، لما تتمتع به من ثقة عالية في صفوف الناس.

العامل الثاني: هو القانون نفسه، فلا يكفي ان يتحلى الناس بثقافة القانون اذا لم يوجد في البلد، اساسا، قانون صحيح، ينظم العلاقات العامة بين افراد المجتمع الواحد.

ومن اجل ان يكون القانون صحيحا وسليما وصالحا، يجب ان يتميز بما يلي؛

الف: ان يكون عمليا، فالقانون المثالي لا يلتزم به الناس مهما تمتعوا من ثقافة عالية، فالناس غير مستعدين للالتزام او تطبيق قانون مثالي وغير عملي.

باء: ان يكون قابلا للتطبيق، وذلك بان ياخذ المشرع الظروف الزمانية والمكانية لما يريد ان يشرع من اجله القانون، وهذا يتطلب ان يكون المشرع ملما بكل حيثيات وظروف الامر ليشرع قانونا ينسجم والجو العام.

وان افضل القوانين هي التي تصدر بعد دراسة علمية للواقع الاجتماعي والثقافي، معتمدا على المسح العملي لكل المقومات والحيثيات، وافضل منه هو الذي يصدر بعد الاستماع الى الراي العام، من خلال عمليات الاستبيان مثلا، وهذا ما يجري العمل به في بلاد الغرب عادة، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية، الامر الذي يشجع الناس على الالتزام بالقانون لشعورهم بانه منهم واليهم، وانهم قد ساهموا في اصداره بشكل او بآخر.

جيم: ان يكون القانون متوازنا، فلا هو مرن بدرجة كبيرة، ولا هو لين بدرجة غير معقولة، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عندما قال لاحد اصحابه يوصيه بالطريقة الفضلى للتعامل مع الناس \{لا تكن لينا فتعصر، ولا تكن صلبا فتكسر\} في اشارة الى التوازن المطلوب، ليكون القانون قابلا للتطبيق في كل الظروف والحالات، ولذلك نرى ان علماء القانون يبحثون في روح القوانين وليس في النصوص، لان النص شئ ميت لا حراك فيه، اما الذي فيه الروح وتدب فيه الحياة فهو جوهر القانون الذي يسمونه بروح القانون.

ان القانون الذي ليس فيه روح لا يمكن تطبيقه ابدا، مهما كان الناس على درجة عالية جدا من الوعي والثقافة القانونية، اذ كيف يمكن لاحد ان يطبق قانونا ليس فيه روح؟ وان الذي لا زال يحكم في الولايات المتحدة الاميركية، وبعد مرور اكثر من قرنين من الزمن على تشريع الدستور الاميركي الذي لا تتعدى مواده عشر ما تحتويه كل (دساتير) دول العالم العربي والاسلامي، هو روح القانون وليس نصه، ولذلك ظل طوال هذه المدة الطويلة من الزمن حيا في كل مناحي الحياة، وكانه دون، بتشديد الواو وكسرها، للتو، اما في بلداننا فالقانون ميت لا حياة فيه، ولذلك لا احد يتذكره الا عندما يريده الحاكم لحاجة في نفسه يريد قضاها.

داء: واخيرا، ان يسري القانون على الجميع من دون استثناء، فلا احد الا والقانون فوقه، وليس في المجتمع من هو خارج سلطته، ليتسنى للقانون ان يحقق العدالة في المجتمع من خلال سريانه على الجميع، حاكمون ومحكومون، اما ان يصطاد القانون ضعفة الناس ويفلت منه الاقوياء، فهذا ليس بقانون، وانه سيفقد مصداقيته بمرور الزمن.

العامل الثالث: هو القوة التي تنفذ القانون، اذ لا يكفي ان يتمتع بلد ما بقانون رائع وبشعب مثقف وواعي، ليشهد حكومة القانون، ابدا، اذ يجب ان تكون الى جانب كل ذلك، القوة التي تنفذ هذا القانون وتذكر الناس (المثقفين) بوجوب تنفيذه عند الضرورة والحاجة.

ان اعرق الدول الديمقراطية تتمتع بقوة تنفيذية عالية الجودة، تفرض هيبتها على جميع الناس، والا لما احترم احد القانون ابدا، لان من طبيعة الناس انهم يتمردون على كل ما يحد من حرياتهم بشكل او بآخر، فلو كان الامر بيد الناس لقاد الجميع مركباتهم في الشوارع والطرقات باقصى السرعة، فلم يلتزم احد بحدود السرعة المقررة، او بالاشارات الضوئية وعلامات التوقف، ولكل مبرراته في عدم الالتزام بالقانون، الا ان الرقابة السرية المنتشرة في الشوارع والطرقات، كالكاميرات، والانتشار الهائل لشرطة المرور السرية منها والعلنية، في كل مكان، والتي تمتلك حق ايقاف المخالفين مروريا واصدار المخالفات القاسية احيانا بحقهم، ان كل ذلك هو الذي يساهم بدرجة كبيرة في ردع المخالفين، الذين يتعرضون لعقوبات هي بحجم المخالفة، اذ كلما كانت المخالفة اكبر كلما كانت قوة الردع القانونية اكبر، وهكذا.

وكلنا يتذكر كيف ان الناس في الولايات المتحدة الاميركية، خرجوا عن القانون وتمردوا على التزاماتهم وتنكروا لثقافتهم الدستورية والقانونية، بمجرد ان غابت القوة لساعات في مدينة (نيو اورليانس الساحلية في ولاية لويزيانا) التي ضربها الاعصار المدمر قبل سنتين، الامر الذي كشف عن مدى حاجة المجتمع، اي مجتمع، الى القوة لتنفيذ القانون.

لقد ابتلي العراقيون بالفوضى في حياتهم، طوال حكم النظام البائد، عندما غاب القانون عن حياتهم اليومية، وعلى مختلف الاصعدة، ولذلك فانهم بحاجة اليوم الى اعادة تشكيل الحياة القانونية على مختلف الاصعدة، بدءا من العلاقة الثنائية داخل الاسرة الواحدة، وليس انتهاءا بالعلاقة بين مؤسسات الدولة، مرورا بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وغير ذلك.

اننا بحاجة الى ان نرسم معالم القانون الذي ينظم كل هذه العلاقات، سواء من خلال ما يدون منه في الدستور وغيره، او ما نتفق عليه نظريا كعقد اجتماعي والتزامات اخلاقية تساعدنا على تحسين حياتنا وتطويرها نحو الافضل.