1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

حول قانون الجنسية الجديد مرة أخرى

٣ ديسمبر ٢٠٠٩

د عبد الخالق حسين

https://p.dw.com/p/KpRj

يبدو أن هناك آلاف العائلات العراقية قد اكتوت من جراء تطبيقات قانون الجنسية الجديد وفق

العقلية الصدامية. إذ بعد نشر مقالي الأخير الموسوم (قانون الجنسية الجديد وبتطبيقات صدامية ) استلمت عشرات الرسائل عبر بريدي الإلكتروني، لكل مرسل قصة مأساوية لو أردت نشرها لاحتجت إلى كتاب، يعرب مرسلوها عن معاناتهم أو معاناة غيرهم من أصدقائهم ومعارفهم، سواء في عهود الحكومات السابقة في العهدين الملكي والجمهوري، أو في العهد الجديد. أكتفي بذكر ثلاث رسائل فقط، فالأولى والثانية فيهما القاسم المشترك لمعظم الرسائل، والثالثة أستطاع صاحبها اكتشاف حل للمشكلة عن تجربة شخصية مر بها قبل ستة أشهر، أعرضها على المسؤولين في حكومتنا الرشيدة وكل من يهمه الأمر، عسى ولعل أن يضعوا حداً لهذه المعاناة في ظل دولة نأمل منها أن تكون دولة القانون بحق، قولاً وفعلاً، الدولة العصرية التي تعامل مواطنيها على أسس المواطنة الحقيقية بالتساوي وبدون أي تمييز عرقي أوديني أو طائفي، تماماً كما أقره الدستور الجديد. ودوري في هذا المقال هو مجرد تنقيح هذه الرسائل وتلخيصها، وإضافة المقدمة والخاتمة.

ففي رسالة من السيد س. م. وتعليقاً على مقالي السابق، قال: ((...إن المقال يحكي معاناتي وقصة آلامي بسبب هذه الشهادة اللعينة، وكلما تذكرتها صرت اكره العراق والعروبة وكل البشرية على ما عانيت من وراء هذه (....) آسف على الألفاظ، لكن ما عانيت من هذه المشكلة تلاحقني طول حياتي وعملتْ عقدة في نفسي أتذكرها وتشعل النار في قلبي كلما دار الحديث عن هذا الموضوع! وتفاجأت بمقال حضرتكم الرائع بأنه لحد اليوم هناك تفرقة من هذا القبيل! كنت أظن أن الحكومة الجديدة وعقلها المثقف القادم من أوربا وأمريكا من أول يوم سوف يحرق السجلات القديمة لدائرة الجنسية ويرميها بالمزابل بعد نقل المعلومات فيها إلى الكومبيوترات الراقية وجوازات السفر الحديثة والجنسية الحديثة ويلغي شهادة الجنسية العراقية!

((كان أبي المرحوم شديد النزاهة والشرف الوظيفي ولا يؤمن بشيء اسمه رشوة أو بخشيش. تم تعيينه معلماً سنة 1932 على ما أظن، وتقدم بطلب شهادة الجنسية العراقية. فسألوا المختار ما أصل هذا المتقدم؟ ولأن أبي لا يعطي رشوة للمختار، انتقم منه وسجله تبعية إيرانية. وهكذا بجرة قلم من مختار مرتشي فاسد خلقت لنا مشكلة التبعية الإيرانية التي لاحقتنا والتصقت بنا لحد الآن ومن الصعوبة التخلص منها. وعندما حصل الوالد على شهادة الجنسية كم صنف (تبعية إيرانية)، لم يهتم، وكان يردد: "أن العثماني تركي والإيراني إيراني، والاثنان أجانب!"، و لم يحصل لنا أي تفرقة في طول تلك الفترة، فولدنا ودخلنا المدارس وأبي صار مدير مدرسة (....) في المدينة التي كنا نسكنها، وبعدها مفتشاً... ووكيلاً لمدير التربية ومديراً لها إلى أن تقاعد. لكن بدأت التفرقة العنصرية عندما دخل أخي الكبير (م) إلى الجيش برتبة ملازم ثاني احتياط بعد تخرجه من كلية الهندسة – بغداد عام 1966، لاحظ على ملفه عندهم عبارة (إيراني الجنسية)، ولم يهتم أيضاً، وأنهى الاحتياط وتعين في إحدى مؤسسات الدولة دون مشكلة.

((قلنا للوالد روح عيِّن محامي ليغير هذه الكلمة اللعينة في شهادة الجنسية مادام مديرها العام صديق حميم جداً لقريب لنا، وسوف يوافق على الطلب رأساً، فوعدنا القريب بتحقيق ذلك وان كلفة المحامي لا تتجاوز المائة دينار! ولكن كعادته، لم يهتم أبي، فرفض الطلب وردد نفس النغمة "إيراني -- تركي - نفس الشي!!" وكان التبعية في ذلك الوقت فقط لم يقبلوه في الجيش والشرطة والأمن، ولا أحد منا كان يفكر أصلا بالدخول في تلك المؤسسات، لذلك كانت المشكلة غير مهمة بالنسبة لنا، ولكنها تجددت عندما رفضوا قبول أخي (ق) في كلية الطب، فقبلوه في كلية أخرى.

ويواصل السيد س. م. قصته قائلاً: ((أنا كنت الضحية الكبرى، فقد أخرجوني من المطار سنة 1980 أول ما جاء المشعول صدام إلى الحكم، فأخرج جميع الذين تم وصفهم بالتبعية من المطار ووزعهم على الدوائر الجانبية غير المهمة، وأنا صار نصيبي مدرس في معهد (....!!) لكن ما عانيناه من الخوف من التسفيرات وخاصة عندما نسمع فلان عائلة سفروها، كان عمرنا يكبر سنوات من الخوف والقلق، وبيت زوجتي تأثروا كثيرا لأنهم أيضاً ألصقت بهم دمغة التبعية الإيرانية زوراً، فصادروا الفندق الذي كانون يمتلكونه، وأضطر أخوة زوجتي إلى الهروب خوفاً من التسفير المذل، ففروا إلى سوريا، والبقية عانوا ما عانوا من ملاحقات الأمن الحقير، وكانوا كلهم بنات متزوجات وقصتهم طويلة ومؤلمة. ونحن خلصنا من التسفيرات بالقدرة، واعتقد أن السبب هو لا أحد منا دخل حزب أو سياسة، وكانت النظرة العلمانية تغطي علينا، والتقرير الحزبي علينا جيد لأننا كنا على علاقة جيدة جدا مع المسؤول الحزبي الذي كان جاراً لنا، وكان هو أيضا طيب وابن أوادم، فكان يكتب تقارير إيجابية، عنا – ولذلك، الآن بيت أهلي في العراق يردوا له الجميل ويحموه من أي أذى من المتطرفين!

((لكن أنا دائما أحوِّل النكسة إلى انتصار، فتركت الوظيفة واتجهت إلى الأعمال الحرة من صاحب تاكسي إلى محل وإلى محلات، وصارت الحالة المادية جيدة جدا وختمتها بالهرب من العراق بعد أن أصبحت أحواله لا تطاق بكل المقاييس.

ويختتم السيد س.م. رسالته بالقول: ((شكرا أخي على المقال الذي وضحت فيه أصل التبعية وكنت أقول للناس، أنهم أخرجوني من المطار لأني لم أكن بعثياً، واخجل من قول السبب الحقيقي لأنكم تعرفون أن المجتمع العراقي لا يرحم، إذ لا يفرق في هذه الحالات، ولا يصدق الحقيقة، واقل كلمة أو خلاف مع شخص يقول عنك:"هذا العجمي!" وما أثقلها من شتيمة!! ولحد الآن اكتم السبب لأنه حتى العراقيين هنا في بلاد المهجر، أكثرهم من نفس الطينة، من الصعب عليهم أن يفهموا. لذلك قلت لحضرتكم السبب الحقيقي لأني اعرف ما مدى فهمكم وتقديركم لهذا الموضوع، وخاصة بعد قراءة مقالكم الذي شجعني ان أقول ما في قلبي. لكن بالمقابل أثار عليّْ أحزان الماضي ومعاناته و(...) بروح صدام وعبد السلام أساس العنصرية المقيتة)). انتهت قصة السيد س. م.

هذه القصة نراها مكررة بشكل وآخر لدى ألوف العائلات العراقية، وهي إما بسبب كون الناس لم يفرقوا بين الجنسية الإيرانية والعثمانية في العهد العثماني، أو بسبب إصرار رب الأسرة بعدم تقديم رشوة إلى مختار المحلة في العهد الملكي، فصار المواطن العراقي أجنبياً لسبب جد بسيط، وبجرة قلم من مختار جاهل مرتشي.

أما مأساة الكرد الفيلية، فحدث عن البحر ولا حرج، حيث بلغت القمة في عهد حكم البعث، وبالأخص عندما تسلم صدام حسين رئاسة الجمهورية وصار الحاكم المطلق والكل بالكل، وهذه حكاية عائلة واحدة كما نقلها لي مشكوراً قارئ آخر، أراها جديرة بالنشر والاعتبار، يقول الأخ صاحب الرسالة:

(عائلة كردية فيلية كانت تسكن في العطيفية قرب تمثال عبد المحسن الكاظمي، وكانوا أصدقاءنا وجيراننا لا يبعدون عنا سوى مسافة 300 متر، وكان لهم ثلاثة أولاد في الجيش. سفَّرت الحكومة عائلتهم وصادروا البيت والأثاث، وحجزوا أولادهم الثلاثة لأنهم جنود وخافوا على أسرارهم العسكرية العدوانية أن يسربوها إلى إيران! كان ذلك قبل شن الحرب في أيلول/سبتمبر 1980. استطاع الابن الوسط، سامي، الهرب من السجن وجاء إلى بيت جيراننا واختبأ عندهم وكان وضعه خطرا جدا إذا ما انكشف، فقد يسبب في تدمير أهل البيت الذي كان مختبئا عندهم، لذلك أنا عملت له هوية طالب في معهد (....) لأني كنت مدرسا فيه، وسرقت بطاقة هوية فارغة من قسم الصادرة، ووضعت صورته عليها وختمتها بختم المعهد، وكانت هوية أصلية غير مزورة بمقياس الدولة ليتسنى له الخروج والتجول في بغداد بهذه الهوية أمام دوريات التفتيش الكثيرة، ويتنقل من بيت إلى بيت أيضا بأمان! أما الاثنان الباقيان فقد أعدمهم النظام، ولا اعرف كيف، هل عمل بهم تجارب أو فتح بهم حقول ألغام!؟ لأنهم لم يظهروا لحد الآن. أما سامي فقد فلت وسافر إلى سوريا، وقد رجع الآن إلى العراق ليستلم بيت أهله بعد وفاة والديه بالمنفى الإيراني.).

هذه محنة شرائح واسعة من أبناء شعبنا على يد حكم البعث الذي فرض على العراقيين في السبعينات والثمانينات تطليق زوجاتهم إذا كن من صنف التبعية، وقدم مكافئة أربعة آلاف دينار (13 ألف دولار) للعسكري، وثلاثة آلاف دينار (نحو 10 آلاف دولار) للمدني الذي يطلق زوجته إذا كانت تبعية إيرانية. وهذا يعني أن حكم البعث فرض تمزيق الأسرة العراقية، وإبعاد الأم عن أطفالها وزوجها، لأسباب عنصرية بحتة للحفاظ على نقاء الدم العربي!!!. ومع ذلك يعترض البعض على وصفنا للبعث بالفاشية. وليت شعري، إن لم تكن هذه الممارسات العنصرية الطائفية في التمييز بين مكونات الشعب الواحد، فاشية، فما هي الفاشية إذنْ؟

أرجو من الأصدقاء الليبراليين الطيبين الذين يطالبون هذه الأيام بشمول البعث في العملية السياسية ومشاركتهم في حكم العراق الجديد باسم المصالحة، أن يوضحوا لنا ذلك. كما وأرجو أن لا يكتفوا بإلقاء اللوم على صدام حسين وحده وتبرئة البعث والبعثيين من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب، فصدام هو نتاج البعث، نجح في قيادة الحزب والدولة لأن سايكولوجيته الإجرامية (السايكوباثية) كانت هي الأكثر ملائمة وانسجاماً وتطابقاً مع أيديولوجية البعث الفاشية، خاصة وكان يتمتع بتأييد ومباركة مشيل عفلق، الأب الروحي والقائد المؤسس لهذا الحزب الكارثة.

***********

والرسالة الأخيرة هنا، استلمتها من صديق عزيز، أرمز له بـ(م.م)، وهو كاتب وصحفي عراقي متميز، يقيم في إحدى الدول الأوربية، أجاب مشكوراً على رسالة السيد ش.ح، التي وردت في مقالي الأول عن مشكلة شهادة الجنسية، والكاتب من عائلة عراقية معروفة، لا تعاني من مشكلة التبعية الإيرانية أو غير إيرانية، ذهب إلى العراق قبل ستة أشهر من أجل استخراج الجنسية (الهوية الشخصية) لأولاده، تمسكاً واعتزازاً منه بعراقيته، ولكنه مع ذلك واجه مشاكل كبيرة تشبه تلك التي واجهها السيد ش.ح.، جاء في رسالته ما يلي:

"المقال بخصوص العراقي الراغب في الحصول على شهادة الجنسية...أهمس في أذنك وأذنه نصيحة أخوية، أن المشكلة لا علاقة لها بالسياسة، بل لها كل العلاقة بالفساد، وهو الذي يسيِّر كل سياسات العراق اليوم بغض النظر عن كل التنظير السياسي الذي نتناوله بالتفصيل في الإعلام.

ليدفع 50 دولار إلى الموظف المعني دون ملاحظة أحد، وسيزوِّدوه بما يريد، وحتى إذا أراد جنسية لجاره في أية دولة غربية فيمكنه الحصول عليها مقابل نفس المبلغ."

ويضيف الصديق قائلاً: "هذه ليست نصيحة نظرية، بل خبرة عملية حقيقية واجهتها قبل 6 أشهر حين استخرجت جميع الوثائق العراقية المطلوبة لأبنائي الثلاثة، بما في ذلك جوازات السفر، وكان المبلغ الكلي الذي دفعته هو 2000 دولار (ولا عين الشافت ولا القلب اليتعب)".

أود التأكيد هنا على إن نشر رسالة الصديق (م.م.) ليست دعوة لحل المشكلة عن طريق دفع الرشوة للفاسدين، بل لأنقل الصورة البائسة عن تفشي ظاهرة الفساد الإداري في مؤسسات الدولة، وأن هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة كما يحاول البعض تفسيرها، بل هي من مخلفات العهد البعثي البائد وتدميره للأخلاق وروح المسؤولية والمواطنة لدى شريحة واسعة من الموظفين.

***********

وفي الختام، أشكر الأخوة الذين تفضلوا بإرسال تعقيباتهم القيمة، وبالمزيد من القصص المؤلمة التي عانى منها وما يزال، الكثير من أبناء شعبنا من محنة الجنسية العراقية. والجدير بالذكر أن هناك حملة بعثية قذرة تعمل الآن على التشكيك في انتماء المسؤولين العراقيين في العهد الجديد، ونعتهم بأنهم إيرانيون وغيرها من الاتهامات الباطلة التي تفنن البعثيون في حبكها وطبخها ونشرها على مواقعهم في الشبكة الإلكترونية وتوزيعها بالإيميلات، كمحاولة لإقناع القراء بصحتها، وهي إعادة للأسطوانة الطائفية المشروخة.

لذلك، أهيب بالسادة المسؤولين، وخاصة في وزارة الداخلية ومديرية الجنسية، أن يتحركوا بسرعة لوضع حد لمآسي الناس ومعاناتهم من هذه الجنسية وشهادتها، ومن تفشي ظاهرة الفساد الإداري، وذلك بتأسيس شبكة واسعة من المراقبين السريين لمراقبة أعمال موظفي دوائرهم، ومحاربة الفساد واستئصاله، لأنه صار لا يقل خطورةً عن الإرهاب. كما ويجب العمل على وضع حد لمعاملة المواطنين كتبعية تركية أو إيرانية، فإذا كان لا بد من وصف العراقيين بالتبعية، فهم من التبعية