1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

كيف يتم انفراج الانسداد التاريخي ونجاح التنوير العربي؟

١٢ نوفمبر ٢٠٠٩

د. شاكر النابلسي

https://p.dw.com/p/KUYc

ناك عوامل أخرى غير العاملين اللذين ذكرناهما في مقالنا السابق، والتي ساهمت مساهمة واضحة في الإنسداد التاريخي وفشل مشروع التنوير في العالم العربي منها:

1- أن الانحطاط الحضاري الشامل العربي بدأ قبل سنوات من عام 1258م، وهو التاريخ الذي انهار فيه العالم العربي والإسلامي سياسياً أمام ضربات المغول الموجعة والمدمرة للمراكز الحضارية العربية، ومنها مدينة بغداد وقتلهم للعلماء والفقهاء (قتل المغول في العراق حوالي مليوني شخص كما يروي المقريزي في "السلوك لمعرفة دور الملوك"). ورميهم المكتبات العربية في العراق الزاخرة بشتى العلوم في مياه دجلة حتى أصبحت مياه دجلة سوداء من جرَّاء حبر الكتب الكثيرة التي أُلقيت في هذا النهر. وتمَّ تدمير بغداد العاصمة الحضارية الكبرى، وأفضل المراكز الفكرية في العالم، آنذاك بمكتباتها المختلفة، وعلى رأسها "بيت الحكمة"، الذي كان يحوي مئات الكتب في الطب والفلك والفلسفة وشتى العلوم. وقال المؤرخ الأمريكي ستيفن دوتش Dutch Steven : "إن تدمير المغول لبغداد، كان ضربة معنوية قوية للإسلام، وتحوَّل الإسلام فكرياً الى الأسوأ، وازدادت الصراعات مابين الدين والفكر، وأصبح الدين أكثر تحفظاً. وباستباحة بغداد ذبُل النشاط الفكري."

2- في عصر الانحطاط الذي بدأ مع بداية القرن العاشر للميلاد، وبعد تدمير بغداد، وسقوط الخلافة العباسية واستيلاء المغول على بغداد 1258م ثم على دمشق عام 1260م، أصبحت طرق التجارة غير آمنة، ومعرَّضة للنهب والسلب، من قِبل قُطَّاع الطرق والقراصنة، بدأت خطوط التجارة العالمية تتحوّل عن العالم العربي الى أوروبا في القرن الثالث عشر. وهذا العامل الاقتصادي التجاري مهم في تحليل أسباب الانحطاط والانسداد التاريخي، ومن ثم فشل مشروع التنوير في العالم العربي فيما بعد. وهذا العامل السلبي أدى الى إضعاف وافتقار البرجوازية التجارية في بغداد، ودمشق، والمدينة المنوَّرة، وغيرها من حاضرات العالم العربي والإسلامي، في ذلك الوقت. ومن المعروف أن البرجوازية العربية والطبقة الوسطى، هي الداعمة للعقلانية العربية، المتمثلة بالفلاسفة من أمثال أبي بكر الرازي، والكندي، والفارابي، والتوحيدي، وابن سينا، وابن حزم، وابن رشد وغيرهم، كما أنها الداعمة للفرق الفكرية والفلسفية العقلانية كالمعتزلة، وإخوان الصفاء، وغيرهما. كما أنه من المعلوم، أن التجار من وإلى العالم العربي والإسلامي عندما يرحلون، يستوردون ويصدرون الأفكار معهم وفي دفاتر حساباتهم، ويقومون بما نُطلق عليه اليوم "المثاقفة"، أو "التلاقح الثقافي" غير المباشر. فالسلعة المصدرة أو المستوردة تحمل دائماً حبوب اللقاح الثقافي معها، كما يحمل النحل حبوب اللقاح من زهرة الى أخرى. ومن هنا كانت المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، وكوبا، والاتحاد السوفيتي، وكوريا الشمالية، والصين (أيام ماوتسي تونج) خوفاً من الشيوعية والصهيونية. وكانت التجارة في ذلك الوقت لا تتم عبر "الفاكسات"، أو "التلكسات"، أو "الايميلات"، ولكنها تتم بالترحال، والسفر، والمباحثات وجهاً لوجه. وكان لهذا أثره الكبير في التبادل الثقافي أيضاً بين التجار. وكان التجار في الشرق والغرب يعون ويعرفون ثقافة كل بلد يزورنه أو يتعاملون معه تجارياً. وكان للتجارة أثرها الكبير في نقل وتبادل المعارف. وقبل الإسلام وبعده عمل كبار القوم العرب – ومنهم الرسول عليه السلام، وبعض الخلفاء الراشدين، وبعض خلفاء الأمويين - في التجارة. ولم يكن الهدف من التجارة الكسب المادي فقط.

3- إغلاق باب الاجتهاد في عهد الخليفة العباسي المستعصم بالله (1242-1258) آخر الخلفاء العباسيين. ويقول جمال البنا أن "باب الاجتهاد لم يُغلق بأمر سلطاني، ولكنه أغلق لحالة البلبلة والاختلاف ما بين الفقهاء بعضهم بعضاً، في المسألة الواحدة في البلد الواحد، وكان المسلك الأمثل "تنهيج" الاجتهاد، ولكن هذا "التنهيج"، لم يكن مألوفا وقتئذ. وكان الحل إغلاق باب الاجتهاد كله، والاقتصار على العدد المحدود من المذاهب التي أثبتت كفايتها. وانتقد البنا تعبير "لا اجتهاد مع النص"، وأوضح أن أكبر مجال للاجتهاد – بالمعنى العام – هو النص حتى لو كان يبدو جلياً. وضرب البنا المثل بالآية ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ (الأحزاب:33م) فقد وُجِدَ من يقول عن أهل البيت أنهم الرسول، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين. ووُجِِدَ من يُضيف إلى هؤلاء زوجات الرسول، ووُجِدَ من يقول أهل مكة. وأن البيت المقصود هو البيت الحرام. وقال جمال البنا أنه " رغم كثرة الحديث عن فتح باب الاجتهاد، فإن كل محاولات التجديد في الفقه الإسلامي، لم تستهدف الاجتهاد حقاً، ولكن جمع وتصنيف الأحكام في المذاهب المختلفة (جمال البنا، "قضية الفقه الجديد"، الجزء الأول، ص135). ويقول هاشم صالح "إن غلق باب الاجتهاد منذ نحو ثمانية قرون (1258-2009م) أدى إلى موت العلم الطبيعي والفلسفة، فمات العقل معهما. وتحولنا إلى دراويش نركن في تكايا الطرق الصوفية.

4- وكان تصحُّر الهلال الخصيب، الذي كان مهد الحضارات على مرِّ العصور، ونقص ثروات هذا الهلال الحيوانية والزراعية، وارتفاع درجة حرارة طقسه من بين الأسباب التي يوردها هاشم صالح للإنسداد التاريخي في العالم العربي. فطبيعة الأرض، ونوع المناخ، ونقص المياه، كلها عوامل أدت إلى الجفاف الفكري في هذه المنطقة من العالم. بينما أدى غنى الطبيعة، وتوفر المياه، واعتدال الطقس في الغرب، إضافة إلى ثروة حيوانية ضخمة، وتقدم زراعي ملحوظ، إلى المساعدة في الإبداع والاختراع والتفكير، واستنباط مدارس جديدة في النقد الفلسفي، والفكري، والأدبي.

5- ويضاف إلى هذه الأسباب جميعها – وهو الأهم برأينا - الاحتلال العثماني للعالم العربي لمدة أربعة قرون، كان العرب فيها معزولين عن العالم تماماً كما كانت الإمبراطورية العثمانية كلها. ولم ينفتح العثمانيون على العالم إلا عندما قام أول سلطان عثماني( عبد العزيز الأول 1830-1876) بزيارة مصر، ثم زيارة فرنسا بدعوة من نابليون الثالث، لحضور افتتاح معرض تجاري. وبعد عودة السلطان تمَّ خلعه من قبل الانكشارية وبموجب فتوى من شيخ الإسلام التركي آنذاك، لأنه شاهد في باريس عروضاً مسرحية. والجدير بالذكر أن الثورة الفرنسية 1789 ، لم يسمع بها غير عدد قلائل من السياسيين العرب، كما لم يهتم بتداعياتها أحدٌ من العامة في ذلك الوقت، حيث ضرب السلاطين العثمانيون سوراً أقوى من حائط برلين، وستاراً أقوى من الستار الحديدي، الذي فرضه السوفيت على روسيا وأوربا الشرقية.

-2-

ولكن كيف يتم الانفراج لهذا الانسداد التاريخي، الذي ما زال مستمراً حتى الآن، بحيث فشل مشروع التنوير العربي، ومازالت خُطانا متعثرة في طريق الحداثة والليبرالية؟

علينا أن نعلم أن التنوير، لا يتم بين عشية وضحاها. فالتنوير يحتاج إلى سنوات كثيرة من العمل الجاد والشاق، يبدأ بالتحرر من الرؤية القديمة للعالم، وإحلال الرؤية العقلانية، أو الفلسفية محلها. ثم تفكيك كل العقائد، والكشف عن تاريخيتها، وتحرير الناس من هيمنتها.. الخ. لكن العرب الآن – في ظني – مُهيئين لتقبل أفكار عصر التنوير أكثر مما كان عليه الأوروبيون في القرن الثامن والتاسع عشر لأسباب كثيرة. وما ينقصهم هو القيادة السياسة، التي تُحقق التنوير على أرض الواقع، كما فعل أتاتورك منذ 1923، وكما فعل الحبيب بورقيبة في تونس منذ 1956، وكما يفعل الآن عبد الله بن عبد العزيز في السعودية. وكما قال الخليفة عثمان بن عفان فإن "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" (يزع تعني يردع). والعالم العربي الآن نتيجة للقرن العشرين، والانفتاح الواسع على الغرب، وثورة الاتصالات، وإجراءات العولمة، مستعد، ويتقبل أفكار التنوير وتطبيقاته، وما ينقصه هو القرار السياسي من قائد شجاع وتاريخي.