1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

درنة... قصة مدينة تعرضت للتهميش ضريبة لتمردها

١٧ سبتمبر ٢٠٢٣

قبل كارثة إعصار دانيال المدمرة، اشتهرت مدينة درنة المنكوبة بكونها مركزاً للفكر الثوري، وبوجود عناصر إسلاموية متطرفة، فضلاً عن موقعها الساحلي الخلاب.

https://p.dw.com/p/4WPgC
وصف بعض سكان درنة ما حدث في المدينة جراء إعصار دانيال بـ"يوم القيامة"
وصف بعض سكان درنة ما حدث في المدينة جراء إعصار دانيال بـ"يوم القيامة"صورة من: AFP

على مر العصور، ظل تاريخ مدينة درنة الساحلية شرق ليبيا، مزيجاً من الخوف والوقار. منذ تأسيسها أواخر القرن الخامس عشر على أنقاض مستعمرة يونانية قديمة اشتهرت بكونها مركزاً للعالمية والفكر والفن والثقافة.

وقبل الكارثة، بلغ عدد سكان المدينة حوالي 100 ألف نسمة. وتتميز بإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن غابات خضراء نادرة في بلاد تغطيها الصحاري القاحلة.

وعقب كارثة إعصار دانيال، قال خبراء إن سمعة المدينة التاريخية وموقعها الساحلي المتميز كانا من العوامل الحاسمة التي ساهمت في إلحاق أضرار كبيرة ووقوع خسائر بشرية مرتفعة بالمدينة.

مدينة الثوار

في عام 2011 وخلال موجة الربيع العربي، اصطف سكان درنة إلى جانب الثورة الليبية ضد حكم معمر القذافي الذي دام لأكثر من 42 عاماً.

وخلال حكمه، كان القذافي يولي الاهتمام الأكبر بغرب البلاد وتعزيز قوته حول العاصمة طرابلس على النقيض من شرق البلاد حيث تعرضت مدن مثل درنة وبنغازي لعقود من التهميش والإقصاء الاقتصادي.

ويعزو المؤرخون ذلك بشكل جزئي إلى ما عُرف عن سكان درنة من معارضتهم لنظام القذافي منذ سبعينات القرن الماضي. وساهمت شخصيات من المدينة فضلت أشكال من التشدد الإسلامي في تشكيل سمعة المدينة الثورية لتكون المدينة مناهضة للقذافي منذ بداية حكمه. ولم يقف الديكتاتور السابق صامتاً إزاء ذلك؛ إذ رد بسياسة باطشة وترك البُنى التحية في المدينة متداعية دون عناية واهتمام.

وخلال تسعينيات القرن الماضي، انضم عدد من سكان درنة إلى "الجماعة الليبية المقاتلة" (LIFG) المناهضة للقذافي، ما دفع السلطات آنذاك إلى شن حملة قمع وحشية أتت على الأخضر واليابس في المدينة. وشن النظام حملات مطاردة استهدفت كافة منازل المدينة بحثاً عن أعضاء "الجماعة الليبية المقاتلة".

ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل فرض نظام القذافي سياسة العقاب الجماعي من خلال هدم المنازل وقطع المياه والكهرباء عن المدينة، فيما كان الكثير من ضحايا "مذبحة سجن أبو سليم" عام 1996 من درنة.

وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية قبل أيام، قال هاني شنيب، رئيس "المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية"، إن مدينة درنة "تدهورت تدريجياً: لا مدارس، والمستشفيات حالتها سيئة للغاية، والبنية التحتية مهملة".

وفي عام 2011، رصد صحافي من صحيفة الغارديان خلال تفقده درنة، الوضع الصعب داخلها، قائلاً: "الشقق والمباني والمكاتب في درنة في حالة بائسة مقارنة بباقي مدن ليبيا. وتطفو مياه الصرف الصحي في شوارع المدينة".

وفي ذلك، قال أحد مسؤولي المدينة في مقابلة مع "اتحاد البث الأوروبي" (EBU) إن معاناة درنة من الإهمال استمرت على مر السنين، ويضيف: "لا شيء يعمل هنا، لا سلطة محلية ولا وطنية..لا شيء.. نحن نعاني من ظلم كبير".

اصطف سكان مدينة درنة إلى جانب الثورة الليبية في مهدها عام 2011
اصطف سكان مدينة درنة إلى جانب الثورة الليبية في مهدها عام 2011صورة من: GIANLUIGI GUERCIA/AFP

مركز للتشدد؟

خلال الثورة الليبية عام 2011، واظب القذافي على تكرار مزاعم أن المظاهرات المناهضة لحكمه تقف وراءها عناصر إسلامية متطرفة وجماعات مثل القاعدة.

ويقول الخبراء إن الموقف المعارض للمدينة يرجع جزئياً إلى كونها مركزاً للمعارضة الإسلامية المتشددة وما يتمتع به سكان البلاد من أفكار ثورية.

وبعد الإطاحة بنظام القذافي عام 2011، خضعت درنة مثل باقي المدن الليبية لسيطرة ميليشيات وجماعات مسلحة، وكانت معقلاً لـ "كتيبة شهداء أبو سليم" التي أسسها عضو الجماعة الليبية المقاتلة السابق عبد الحكيم الحصادي.

وفي عام 2014، بايع منشقون من "كتيبة شهداء أبو سليم" تنظيم "الدولة الإسلامية (داعش) وسيطروا على المدينة. وفي ذلك، كتب أندرو ماكجريجور، الخبير الكندي في القضايا الأمنية بالعالم الإسلامي في تقرير صدر عام 2018 لـ "مؤسسة جيمس تاون البحثية": "اتسم (حكم داعش لدرنة) بقطع الرؤوس وغيرها من أشكال الإعدام وأعمال الإذلال العلنية".

وعلى وقع ذلك، انتفضت عناصر ضد "داعش" في درنة، ولكن لم يتم طرد مسلحي داعش من المدينة حتى عام 2016، بيد أنه بالنسبة للمدنيين لم تكن تلك نهاية الحرب.

يشار إلى أنه منذ عام 2014 ، تئن ليبيا تحت وطأة انقسام واقتتال داخلي وتناحر سياسي مع وجود حكومتين متعارضتين في شرق البلاد وغربها، حيث توجد حكومة الوحدة الوطنية، المدعومة من الأمم المتحدة والمعُترف بها دولياً في طرابلس غرب ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في حين تقع حكومة أخرى مدعومة من مجلس النواب في طبرق شرق البلاد برئاسة أسامة حمد.

وتحظى الحكومتان بدعم من ميليشيات محلية وقوى إقليمية وأخرى دولية.

استمرار التهميش في عهد حفتر

تزامن الاقتتال في المدينة مع رغبة الجنرال خليفة حفتر، رجل شرق ليبيا القوي، في السيطرة على درنة التي تعرضت لحصار من قبل قواته عام 2015، لكنه لم يتمكن من السيطرة عليها إلا في عام 2018.

وأشار ماكجريجور إلى أنه رغم أن القتال في درنة كان قاسياً، إلا أن المجتمع الدولي غض الطرف عن ذلك "بسبب عدم وجود أي اعتراض على القضاء على معقل للمتشددين الإسلامويين".

وحتى بعد انتهاء أعمال العنف في عام 2018، استمر تعرض درنة للإهمال من قبل سلطات شرق البلاد بسبب سمعتها كمدينة متمردة.

وفي ذلك، قال طارق المجريسى، الباحث في "برنامج شمال إفريقيا والشرق الأوسط" في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، إن الليبيين "في حالة صدمة ويلقون باللائمة (في الكارثة) على السلطات الفاسدة التي تتصارع من أجل السلطة، فضلاً عن اختلاس الأموال المخصصة لإعادة بناء درنة بعد حرب 2018، وتجاهل التحذيرات بشأن المخاطر التي تواجه السدود".

ويقول خبراء إن حفتر مازال يساوره القلق حيال إمكانية اندلاع تمرد يكون مصدره مدينة درنة. وانكشفت العلاقة المتوترة المستمرة بين سكان درنة وقوات شرق ليبيا، عندما أرجأت السلطات في شرق البلاد الانتخابات البلدية المقررة بعد أنباء عن وقوع مواجهات بين نشطاء مؤيدين لحفتر ومعارضيهم.

وقد سمح ذلك للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بفرض استمرار سيطرته على مجريات الأمور في المدينة، وفقاً لما ذكره أنس القماطي، مؤسس "معهد صادق" في طرابلس. وفي مقابلة مع DW، أضاف: "جرى إلغاء الانتخابات المحلية التي كان من المقرر إجراؤها قبل عدة أسابيع في درنة، لصالح الجيش الذي سيحكم لمدة خمس سنوات أخرى".

صورة لمدينة درنة عام 1963 قبل بناء السدود في سبعينيات القرن الماضي
صورة لمدينة درنة عام 1963 قبل بناء السدود في سبعينيات القرن الماضيصورة من: ZUMA Press/IMAGO

موقع خلاب، ولكن؟

ويرى مراقبون أن موقع درنة الخلاب كان أحد الأسباب وراء الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تعرضت لها المدينة جراء إعصار دانيال.

وتقع المدينة التي تزخر بكنائس ومساجد قديمة، فوق ما يعرف "المروحة الغرينية" وهو المصطلح الذي يشير إلى تشكل مكان عند قاع سلاسل الجبال بواسطة الرواسب التي تجرفها الأنهار والجداول باتجاه البحر. ويقسم نهر، أو ما يسمى "وادي"، يبقى جافاً معظم السنة، المدينة إلى نصفين.

ويقول الباحثون إن هذه الطبيعة تجعل من مدينة درنة عرضة بشكل كبير لخطر الفيضانات وهو ما تعرضت له على مر السنين؛ إذ في عام 1941 وإبان الحرب العالمية الثانية، جرفت الفيضانات الدبابات والجنود الألمان المتمركزين على مشارف درنة.

وتعرضت المدينة لفيضانات عارمة في الأعوام 1956 و1959 و1968 و1986، لكن فيضان عام 1959 كان الأسوأ على الإطلاق.

إبان الحرب العالمية الثانية، كانت درنة مسرحاً لمعارك بين الجيشين البريطاني والألماني
إبان الحرب العالمية الثانية، كانت درنة مسرحاً لمعارك بين الجيشين البريطاني والألمانيصورة من: AP Photo/picture alliance

سدان عمرهما قرابة نصف قرن

وإزاء تعرض درنة لفيضانات بشكل منتظم، أقدمت السلطات على بناء سدين هما "سد سيدي أبو منصور" و "سد درنة" بين عامي 1973 و1977 من قبل شركة Hidrotehnika-Hidroenergetika اليوغوسلافية. وقالت الشركة إن الهدف من السدين السيطرة على الفيضانات، فضلاً عن كونهما وسيلة لمنع تآكل التربة وتنظيم ري الأراضي الزراعية.

وكان آخر فيضان تعرضت له درنة عام 2011، عندما حاولت السلطات المحلية فتح السدين لتصريف المياه التي تراكمت وقتها بفعل الأمطار الغزيرة، ما أسفر عن خطر تعرض المدينة للغرق.

وعلى وقع ذلك، أدرك سكان درنة أنه لا يتم إدارة السدين بطريقة صحيحة، فيما يرجح أحد سكان المدينة أن آخر مرة خضعت سدود درنة للصيانة ربما كان في عام 1983 أو 2002.

وقال أحد السكان لـ "اتحاد البث الأوروبي" (EBU): "لقد حذرنا السلطات ليس فقط منذ أسابيع، وإنما منذ سنوات من وجود تشققات في السد ما يعني الحاجة إلى الصيانة. لقد حذرنا لكن لم يستمع إلينا أحد...لقد حلت الكارثة وغرقت المدينة بالكامل".

ويرى باحثون أن سدي مدينة درنة أعطيا سكانها شعوراً بالأمان "الزائف"، ما دفعهم إلى بناء منازل دون تخطيط وحتى في مناطق تعرضت للغرق خلال الفيضانات السابقة.

وقال الباحثون إن الأمر لا يتعلق فقط بسوء صيانة السدين، وإنما بحقيقة مفادها أن السدين لم يتم بناؤهما لمواجهة فيضانات عارمة أو ظواهر الطقس المتطرفة الناجمة عن ظاهرة تغير المناخ.

كاثرين شاير / م. ع